الاثنين، 28 نوفمبر 2011

آراء الشعراء الجاهليين


منقول

آراء الشعراء الجاهليين


والشعر الجاهلي مادة مهمة تعيننا في الوقوف على آراء الجاهليين، على الرغم من كون أكثره قد ورد في أمور لا صلة مباشرة لها بالرأي، أعني بالتفكير في خلق الكون وفي الإنسان نفسه، لِمَ جاء ولِمَ يموت، وما هي الغاية من ظهوره على هذه الأرض، وعن الخلق والخالق، من إثبات أو عدم، وعن النظم وأصول الحكم والمجتمع والمعرفة والثقافة وما شاكل ذلك من أمور لها صلة بالتأمل والتفلسف. ومع ذلك فإن في هذا الشعر المذكور، ما لا يكفي لاستنباط شيء منه عن الرأي عند الجاهليين.

لقد حمل خلو الشعر الجاهلي من العاطفة الدينية، بعض المستشرقين على الحكم بأن الجاهليين لم يكونوا يملكون حساً دينياً، وان دينهم سنتهم، وسنتهم ما ألفوه عن آبائهم وأجدادهم وأعراف قبيلتهم، وهي أعراف ورثوها وحافظوا عليها، محافظتهم على حياتهم، وقاوموا كل من كان يخرج عليها أو يتطاول عليها. ونجد الشعراء يمجدونها ويذكرونها على حين لا نشعر بوجود حس ديني في شعرهم، اللهم إلا في شعر عدد قليل من الشعراء.

والشعر الجاهلي خلو من الشعر الديني الذي يجب أن ينظم في المناسبات الدينية، مثل الحج. ولما كان الحج من المناسبات المؤثرة المثيرة، التي تجمع الناس، فتثير في الشاعر شعوراً بروعة المناسبة وبروعة الاجتماع، فلا بد وأن ينظم الشعراء شعراً فيه، لإنشاده على المتجمعين حول الصنم، غير أننا لا نملك أي شعر قيل فيه و لا في المناسبات الدينية المماثلة التي تدفع الإنسان إلى إظهار شعوره فيها. وهو أمر يلفت اليه النظر حقاً، ويجعلنا نفكر في الأسباب التي أدت إلى عدم ظهور الروح الدينية في هذا الشعر، هل هي طبيعة العربي في عدم اهتمامه بأمور الدين أم هي بسبب كره الإسلام رواية وحفظ ذلك الشعر الوثني!   

لقد نسب بعض المستشرقين خلو الشعر الجاهلي من الوثنية، إلى ترك المسلمين تعمداً رواية ذلك الشعر، بسبب دخولهم في الإسلام واجتثاث دين الله لمعالم الشرك فلم يجد المسلم أن من الهيِّن عليه، حفظ شعر فيه تنويه بما أبطله وحرمه كتاب الله، فرموا منه ما كان ثقيل الوثنية، وهذبوا منه ما كان خفيف الوزن، بأن رفعوا أسماء الأصنام، وأحلوا محلها اسم الله إن ناسب الإسم المعنى، أو شذبوا فيه وأضافوا شيئاً عليه لإزالة معالم الوثنية منه. لأن من الصعب تصور إعراض الشاعر الجاهلي عن ذكر أصنامه في شعره، بينما هو يتوسل ويتقرب اليها، وينذر لها.

فالوثني مهما كان رقيق الدين، بعيداً عن التفكير فيه، فإنه لا بد وأن يلجأ اليه ساعة الشدة وأيام المحن، حيث يبحث عمن يساعده للخروج من محنته، شأنه في ذلك شأن أي إنسان آخر، حين تنزل به النوازل، فيلجأ حينئذ إلى إلهه أو آلهته وأصنامه والى القوى الطبيعية يستمد منها المساعدة والعون.

وأنا لا أستبعد احتمال موت هذا النوع من الشعر الوثني بسبب الإسلام، فليس من المعقول إبقاء الإسلام له، وفيه ما فيه من أمر الأصنام والوثنية المناهضة لدين الله. وعندي ان الجاهلي، مهما قيل عنه من إعراضه عن الدين ومن عدم احتفاله به، ومن بعده عنه، إلا انه كان مع ذلك شديد التمسك به في الأمور التي تمس حياته، مثل التوسل إلى الآلهة بأن تبارك في إبله، وأن تمنحه الغيث، وأن تشفيه من مرضه، إلى غير ذلك من أمور، ذات صلة بالمصالح الشخصية للانسان.

 ودليل ذلك، هو ان معظم ما نجده في نصوص المسند من كتابات، خلدت أسماء الأصنام، انما دونت فيها الأسماء لمثل هذه الأمور فإذا كان الأمر كذلك فنحن لا نستطيع استثناء الشعر الجاهلي من ذكر الأصنام في أمثال هذه المناسبات على الأقل، فالشاعر مثل أي انسان آخر، لا بد وأن يشعر في يوم ما بعجزه وبحاجته إلى مخاطبة أربابه وأن يتوسل اليها لتنفعه أو لتمن عليه بالصحة والعافية وبالمال، يتوسل اليها شعراً، فيمدحها ويشيد بذكرها، ويسترضيها، اقتداء بفعله مع الملوك وسادات القبائل، حيث يكيل المدح لهم شعراً لأنهم أحسنوا اليه.

وقد ورد اسم "الله" في الشعر وفي النثر الجاهليين، على نحو ما ذكرت في الجزء السادس من هذا الكتاب. لقد ذكرتُ هناك أن غالبية المستشرقين شكت في صحة ورود اسم الله في هذا الشعر، ورأت أن رواة الشعر وحملته في الإسلام هم الذين أدخلوا اسم الجلالة في هذا الشعر، وذلك أنهم حذفوا منه أسماء الأصنام، وأحلّوا محلها اسم الله. فما جاء فيه اسم "اللات" حل محله اسم الله وهكذا. وذلك لاعتقادهم أن الوثنيين لم يكونوا يؤمنون بالله، فلا يعقل ورود اسمه في شعرهم.

وهو رأي لا أقرهم عليه، لأن الجاهليين كانوا يؤمنون بالله، ولم يكونوا ينكرون وجوده أبداً، بدليل ما نجده في القرآن من تأكيد بأنهم كانوا يؤمنون به، وأنهم كانوا إذا سألهم سائل من خلق الكون ليقولن الله. وقد ذكرت في حينه كل الآيات الواردة في القرآن الكريم عن هذا الموضوع. وبينت أن أهل مكة وغيرهم من العرب الشماليين، كانوا يؤمنون بإلَه واحد هو الله، ولم يكن بينهم وبين الإسلام خلاف فيه، وخلافهم معه هو في تقربهم إلى الأصنام والأوثان، لتشفع لهم، بزعمهم، إلى اله زلفى. مع أنها أجسام جامدة وأحجار لا حياة فيها، فمن هنا حمل الإسلام عليها، واعتبرها شركاً بالله، لأنهم بتقربهم إليها يكونون قد أشركوها مع الله في ألوهيته، وهذا هو الكفر والضلال في نظر الإسلام. ولذلك أمر بالابتعاد عنها وبنبذها وبنبذ كل ما يتصل بها من عبادة، كما أمر بطمس الصور، ومحوها لأنها من دلائل هذه الوثنية ومن معالمها.

وقريش نفسها لم تنكر على الرسول تعبده لله، ولم تمنعه من الصلاة في بيت الله، ومن ذكره وحمده له، لأنها تختلف معه في عبادته، وإنما اختلف معه، فيما هو دون الله من أصنام وأوثان، وذلك حين عابها وسفه أحلامهم بتقربهم اليها وهي جامدة مخلوقة مصنوعة، عندئذ هاجت وماجت واشتكت إلى أعمام رسول الله والى ذوي رحمه، ومن هنا كان عناد قريش وكفرها وعداوتها للرسول. كما نص على ذلك صراحة في القرآن وفي كتب السير. وأخذت تؤذيه وتؤذي المسلمين كلما ازداد هجوم الإسلام على الأصنام والأوثان.

ويشبه هذا النزاع ما وقع في النصرانية من هجوم على تقديس التماثيل والصور التي تمثل "الثالوث"، و"المسيح"، حيث اعتبرها البعض شركاً، مما سبب وقوع شقاق في الكنيسة. فقد اعتبر رجال الدين ال "ايقونات" شركاً، ولذلك حاربوا التماثيل والتصاوير. وقد كانت هذه المشكلة قد بدأت في الكنيسة نتيجة الصراع الذي وقع بين رجال الدين حول طبيعة المسيح.

ولو أخذنا بصدق ما نسب إلى الجاهليين من شعر ورد فيه اسم الله، وجب إدخال عدد من شعراء الجاهلية في المتألهين، القائلين بوجود إلَه، هو "الله". ففي شعر ينسب إلى "عروة بن الورد"، نجد اسم الله مذكوراً فيه، إذ يقول:

فسر في بلاد الله والتمس الغنى  تعش ذا يسارٍ أو تموت فتعذرا

ويجب عدّ "امرئ القيس" من المتألهين أيضاً، فقد زعموا ان العرب كانت لا تعدّ الشاعر فحلاً، حتى يأتي ببعض الحكمة في شعره، فلما قال: والله أنجح ما طلبت بـه  والبر خير حقيبة الرجل 
عدوّه فحلاً. وهكذا أدخلوه بهذه الحكمة في جملة الفحول.

وقد ورد اسم الله في معلقته، في البيت:

فقالت يمين اللهِ مـا لـك حـيلة  وما إن أرى عنك الغواية تنجلي

ونجده يحلف بالله، فيقول: "يمين الله"، و"حلفت لها بالله"، وتقول له صاحبته: "سباك الله"، مما يدل على انه كان مؤمناً معتقداً به. ونجده يذكر الله في أشعاره الأخرى.

وزعم أهل الأخبار إن "الأفوه بن مالك" الأودي، كان من المتألهين كذلك، وانه لما شعر بدنو أجله، أوصى قومه  مذحج، بتقوى الله، وصلة الأرحام، وحسن التعزي عن الدنيا بالصبر.

وورد في معلقة "عبيد بن الأبرص" قوله:

من يسأل الناس يحرموه  وسائل اللـه لا يخـيب

ويجب إدخال زهير في جملة المتألهين أيضاً، فقد ذكر انه كان يتأله ويتعفف في شعره ويؤمن بالبعث، ونسبوا له قوله:

فلا تكتمنّ الله ما في نفوسكـم  ليخفى ومهما يكتم الله يعلـم
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر  ليوم الحساب أو يعجل فينقـم

وهو يقسم في معلقته بالبيت، فيقول:

فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله  رجال بنوه من قريش وجرهم

فهو مؤمن بالله العلاّم بما في نفوس الناس، فلا تخفى عليه خافية، ومهما حاول الإنسان كتمان سره في قرارة نفسه، فإن الله لا يخفى عليه سره، و لا يفوته أبداً.

وتنسب لزهير قصيدة مطلعها:

ألا ليت شعري هل يرى الناس ما أرى  من الأمر أو يبدو لهم مـا بـدا لـيا
بدا لي أن الناس تفنـى نـفـوسـهـم  وأموالهم و لا أرى الـدهـر فـانـيا

وهي قصيدة ذكر فيها أنه عاش أكثر من مائة سنة، ثم ذكر الله، وأنه حق، وأنه كان مؤمناً به، وأن أيامنا معدودات، ولا يدوم ويبقى إلا الله الذي أهلك تبعاً ولقمان بن عاد وعاديا، وأهلك ذا القرنين، وفرعون؛ ثم ذكر النعمان، وكيف حكم، ثم جاء يوم غير كل شيء.

وقد قال الأصمعي، أنها ليست لزهير، ويقال هي لصرمة الأنصاري، و لا تشبه كلام زهير. وربما كانت من المصنوعات، صنعها من صنع من أمثالها من شعر الوعظ والإرشاد، فنسبه إلى الجاهليين.

ونجد "أبا طالب" يقسم بالله في شعره، فيقول في قصيدة له، يخاطب بها الرسول، انك جئت بدين سمح، هو من خير أديان البرية ديناً، ولولا الملامة، أو حذار سبّة، لوجدتني سمحاً بذاك مبينا.

وروي ان "لبيد بن ربيعة" الشاعر المخضرم، كان من المتألهين في الجاهلية وانه نظم قوله:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل  وكل نعيم لا مـحـالة زائل

قبل الإسلام، أو عند ظهوره.

وان الرسول قال: أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل.

وروي ان له أبياتاً تشير إلى التوحيد والصلاح، والخير، هي:

إن تقوى ربنا خيرُ نَفل  وبإذن الله ريثي وعجل
وقوله:

أحمد الله فـلا نـدّ لـه  بيديه الخير، ما شاء فعل
وقوله:

من هداه سبل الخير اهتدى  ناعم البال، ومن شاء أضل

و"النابغة" الذبياني من المتألهين كذلك، فقد نسبوا له شعراً، ذكر أنه أعترف بوجود الله، إذ قال:

حلفت فلم أترك لنفسـك ريبة  وليس وراء الله للمرء مذهب

ونجده في معلقته يقول

إلا سليمان إذ قـال الإلـه لـه  قم في البريّة فاحددها عن الفند

ونراه يذكر مكة في شعره:

والمؤمن العائذات الطير تمسحها  ركبان مكة بين الغيل والسعـد

وورد اسم الله في قوله: أبـى الـلـهُ:

إلا عـدلـه ووفـاءه  فلا النكر معروف ولا العرف ضائع

أي ما يريد الله إلاّ عدل النعمان بن المنذر، و إلا وفاءه، فلا يدعه أن يجور ولا أن يغدر، فلا النكر يعرفه النعمان، ولا الجميل يضيع عنده. ومعنى هذا أن النابغة كان يرى أن الله هو الذي يقدر الأمور للناس، وأن الإنسان مسير بأمر الله.

و"الحارث بن حلزة" اليشكري من هذا الفريق كذلك، لقوله:

فهداهم لا لأسودين وأمر اللهِ  بلغٌ تشقى به الأشـقـياء
ولقوله: وفعلنا بهم كما علم الله  وما إن للحائنين دماء

وإذا صدقنا بمعلقة "عبيد بن الأبرص"، وأخذنا بصدق الأبيات:

من يسأل الناس يحرموه  وسائل اللـه لا يخـيب
باللـه يدرك كـل خـير  والقول في بعضه ترغيب
والله لـيس لـه شـريك  علام ما أخفت القلـوب

بل يجب عدّه من الأحناف الموحدين، الذين آمنوا بإله واحد لا شريك له. وهو في نظري شعر إسلامي، ويبعد أن يكون من نظم ومن نفس شاعر جاهلي وقد ذهب "ابن الأعرابي"، إلى أن البيت الأول هو لشاعر آخر، هو: يزيد بن ضبّة الثقفي.

و"عمرو بن الإطناب" سيد الخزرج في أيامه من هذا الرعيل الذي ذكر اسم الله في شعره، غذ ذكره بقوله:

إني من القوم الذين إذا انتدوا  بدأوا بحق الله ثم الـنـائل

و انتدوا: جلسوا في النادي. فهو يبدأ بذكر الله، وبحقه، إذا ما جلس في النادي.

وورد اسم "الله" في شعر لخداش بن زهير:

تقوه أيها الفـتـيان إنـي  رأيت اللهَ قد غلب الجدودا

ونجد ذكر الله في شعر "صؤيم بن معشر بن ذهل" التغلبي، وكان قد لقي كاهناً، فسأله عن موته، فقال له:
انك تموت في موضع يقال له "إلاهة"، فمكث زماناً ثم سار إلى الشام في تجارة ثم رجع في ركب من "بني تغلب"، فضّلوا الطريق، ثم أتوا موضعاً اسمه "إلاهة" قارة بالسماوة، فلدغته حية، ثم تذكر قول الكاهن، فقال:

لعمرك ما يدري امرؤ كيف يتقي  إذا هو لم يجعل له اللـه واقـيا
كفى حزناً أن يرحل الحي غدوة  وأصبح في أعلى إلالاهة ثـاويا

وهو شعر إن صح انه له، دل على إن صاحبه كان يؤمن بأن لكل إنسان اجل، وانه إذا جاء الأجل، فلا مردّ له، وانه لا مرد لقضاء الله وقدره.

وفي شعر "قيس بن الحدادية"، إيمان بالله، وأن الله هو الذي يقدر الأمور، إذ يقول:

فقلت لها والله يدري مـسـافـرٌ  إذا أضمرته الأرض ما الله صانع
ويروى: فقلت لها والله ما من مسافر  يحيط بعلم الله ما الله صانع

وفي شعر "النمر بن تولب"، وهو من المخضرمين قوله:" سلام الإلَه وريحانـه  ورحمته وسماءٌ درر 
والعرب تقول: "سبحان الله وريحانه، أي: واسترزاقه".
ونجد في شعر للأعشى أنه كان يؤمن بالرحمن، اذ يقول:

وما جعل الرحمن بيتك في العُلى  بأجياد غَربي الصفا والمحـرم

ويقول:

وإن تقى الرحمن لا شيء مثله=فصبراً إذا تلقى السحاق الغراثيا

 ثم يبين بعده إيمانه بإله واحد لا شريك له، اذ يقول:

وربك لا تشرك به إن شركـه  يحط من الخيرات تلك البواقيا
بل الله فاعبد لا شريك لوجهه  يكن لك فيما تكدح اليوم راعيا
وإياك والميتات لا تقربنها=كفى بكلام الله عن ذاك ناهيا

ونجده في القصيدة رقم "15" التي فيها البيت الأول، يحلف، برب الراقصات إلى منى، ثم يذكر "ماء زمزم"، أي مكة، بينما نجده في القصيدة الثانية مؤمن بالرحمن، مؤله له، موحد، لا يشرك بربه أحداً. وهو شعر روي عن "أبي عمرو الشيباني"، ركيك ضعيف، موضوع عليه.

وروي أن "الشنفري" كان ممن آمن بالرحمن، وذكره في شعره، إذ قال:

لقد لطمت تلك الفتاة هجينها  ألا بتر الرحمن ربي يمينها

ولكنه بيت يشك في صحته، ولم ينقله الثقات.

وقد سبق لي أن تحدثت في الجزء السادس من هذا الكتاب عن عبادة الرحمن، وقلت إن قريشاً قالت للرسول لما نزل الوحي قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن "أتدرون ما الرحمن الذي يذكره محمد، هو كاهن باليمامة"، وأنها قالت: "دق فوكن انما تذكر مسيلمة رحمن اليمامة"، وكان قد تسمى بالرحمن قبل مولد عبد الله والد الرسول.

وقد زعم أهل الأخبار إن الأعشى كان قدرياً، وانه أخذ رأيه هذا من أهل الحيرة واستشهدوا على رأيه بالقدر بقوله:

استأثر اللهُ بالوفاء وبالعدل  وولى الملامة الرجـلا

و رأي الشريف "المرتضى" إلا أن مذاهب أهل العدل، أي على مثل ما ذهب إليه "المعتزله" والشيعة الإمامية الاثني عشرية في الإسلام. وعلل بعض أهل الأخبار سبب تحول الأعشى إلى القدرية، انه كان يأتي أهل الحيرة في الجاهلية، وكانوا نصارى، يأتيهم يشتري منهم الخمر، فلقنوه ذلك. ورد في كتاب "الأغاني": "قال لي يحيى بن متي رواية الأعشى وكان نصرانياً عبادياً، وكان معمراً، قال: كان الأعشى قدرياً، وكان لبيد مثبتاً. قال لبيد:

من هداه سبل الخير اهتدى  ناعم البال ومن شاء أضل

وقال الأعشى:

استأثر الله بالوفاء وبال_عدل وولى الملامة الرجلا

قلت: فمن أين أخذ الأعشى مذهبه?قال: من قبل العباديين نصارى الحيرة، وكان يأتيهم يشتري منهم الخمر، فلقنوه ذلك".

والبيت المذكور هو من قصيدة مدح فيها "سلامة ذا فائش" مطلعها:

إن مَحَـلاَ وإن مـرتـحـلا  وان في السفر ما مضى مهلا
استأثر اللهُ بـالـوفـاء وبـال  عدل وولى الملامة الرجـلا

شك في صحتها "ابن قتيبة"، فقال: "وهذا الشعر منحول"، والصنعة في الواقع بينة على القصيدة، وإذا كان الأمر كذلك، فيجب أن يكون القدري صاحبها، ذلك الرجل الذي نحلها الأعشى، لا الشاعر الأعشى.

ويذكر أهل الأخبار أن الأعشى كان ممن أقر بالملكين الكاتبين في شعره، إذ يقول:

فلا تحسبني كافراً لـك نـعـمة  على شاهدي يا شاهد الله، فاشهد

وشاهدي، يعني لساني، ويا شاهد الله، يريد الملك الموكل به. وكان هذا من إيمان العرب بالملكين. وقد نسبوا هذه العقيدة إلى بقية من دين إسماعيل، وزعموا أن العرب ممن أقام على دين إسماعيل، إذا حلفت تقول: وحق الملكين، فكان الأعشى ممن أقام على دين إسماعيل والقول بالأنبياء. "والأعشى ممن اعتزل وقال بالعدل في الجاهلية".

ونسب إلى "لبيد" العكس أي القول بالجبر واستدل من نسبه إلى الجبر بقوله:

إن تقوى ربنا خير نـفـل  وبإذن الله ريثي والعجـل
احمد اللـه فـلا نـد لـه  بيديه الخير ما شاء فعـل
من هداه سبل الخير اهتدى  ناعم البال ومن شاء أضل

وق قال بعض العلماء: إن هذه الأبيات لا تشير حتما إلى مذهب لبيد في الجبر، وإنها لا تكون سبباً في نسبة الجبر إليه، وقد تأولها، وأوجد لها مخارج في أبعاد القول بالجبر عنه. ثم قال: "اللهم إلا أن يكون مذهب لبيد في الإجبار معروفاً بغير هذه الأبيات، فلا يتأول له هذا التأويل، بل يحمل على مراده على موافقة المعروف من مذهبه".

وينسب إلى "زهير بن أبي سلمى" قوله:

يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر  ليوم الحساب أو يعجل فينقـم

وذكر انه كان يتأله ويتعفف في شعره المذكور على إيمانه بالبعث وبالحساب وبالثواب وبالعقاب.

ومن رأي الجاهليين إن الموت مكتوب على جبين الإنسان، ولا بد له من أن يواجهه في يوم محتوم مكتوب عليه. ومن لم يمت عبطة، مات هرماً. وفي ذلك يقول أمية:

من لم يمت عبطة يمت هرماً=وللموت كأس، والمرء ذائقها

ويقول الأعشى:

ولو كنتَ في جب ثمانين قامةً  ورُقيت أسباب السماء بسلـم

ونجد رأي الجاهليين في الروح واضحاً في أشعارهم وفي أقوالهم عن الموت، فالموت-كما سبق أن تحدثت عنه- في نظرهم مفارقة الروح للجسد، فإذا فارقته صارت "هامة" ترفرف فوق قبر صاحبها. هذا "عروة بن الورد"، يذكر الموت، ثم يذكر ما سيقوله الناس عنه، بقوله:

أحاديث تبقى، والفتى غيرُ خالد=إذا هو أمسى فوق صيّر

وقد أشير إلى "العتائر" التي تقدم في "رجب"، في شعر "طرفة":

عنتاً باطلاً وظلماً كـمـا تـع  تر عن حجرة الرّبيض الظباء

وكان الرجل من العرب ينذر نذراً على شائه إذا بلغت مائة أن يذبح عن كل عشرة منها شاة في رجب، وكانت تسمى تلك الذبائح الرجبية، وهي العتائر.

وكان الرجل منهم ربما بخل بشائه فيصيد ظباءً فيذبحها عن غنمه في رجب ليوفي نذره.

ومن الشعراء من غلبت التبرم من هذه الدنيا، وذكر الموت، والاتعاظ به، وعلى رأس هؤلاء "عدي بن زيد" العبادي، النصراني، وهو خير من يمثل هذه النزعة التصوفية، التي ترى أن اللذة لا تدوم، وأن السعادة موقتة زائلة، وان على الإنسان أن يتعظ بمن عاش قبله من الملوك العظام، والأمم القوية، وممن نزع هذا المنزع وان كان دون "عدي" بكثير "الأسود بن يعفر"، في قوله:

ماذا أؤمل بـعـد آل مـحـرق  تركوا منازلهـم، وبـعـد إياد
أهل الخورنق والسدير وبـارق  والقصر ذي الشُرفات من سنداد
إلى أن قال: أين الذين بنوا فطال بناؤهم  وتمتعوا بالأهـل والأولاد
فإذا النعيم وكل ما يلهى به  يوماً يصير إلى بلى ونفاد

وآخرها:

فإذا وذلك لا نفاد لذكره=والدهر يعقب صالحاً بفساد

غير إن هذه النزعة، لم تكن ناتجة عن رأي وعن فلسفة ودراسة تأمل لهذه الحياة، وإنما هي نزعة نجدها عند من أصيب بنكبة وعند من حلت به مصيبة، وعند المسنين الذين غلب العمر عليهم، فجعلهم حطاماً وكومة عظام، لا يستطيعون الوقوف على أرجلهم، فهم متعبون لا يجدون من يصغي إليهم أو من يعطف عليهم، أو من يساعدهم في الخروج من المآزق التي وقعوا فيها، فتبرموا لذلك من الحياة، وأخذوا يذمونها، وإنما هم يذمونها لأنهم صاروا في الحال لا يتمكنون فيها من التلذذ بها و من التمتع بنعم الحياة التي هي لا تتغير وإنما الذي يتغير هو الشخص، الذي كبر و عجز فصار يذم الدنيا، لأنه لم يعد قادراً على فعل ما كان يفعله أيام كان شاباً قوياً يحب الدنيا، فتقبل الدنيا عليه.

ونجد في شعر ينسب للأعشى إشارة إلى التطير، إذ يقول:

ما تعيف اليوم في الطير الروح  من غراب البين أو تيس برح

وكان "النابغة" الذبياني من المتطيرين. خرج مرة مع "زبان بن منظور" الفرازي غازياً، فسقطت عليه جرادة، فتطير منها. فرجع من الغزو، ومضى زبان فظفر وغنم، فقال:

تعـلـم أنـه لا طــيرَ إلا  على متطير، وهي الثبـور
بلى شيء يوافق بعض شيء  أحاييناً، وباطـلـه كـثـير

وقال خرز بن لوذان، ويقال مرقش السدوسي:

لا يمنعـك مـن بـغـا  ء الخير تعقاد التمـائم
لا، و التشاؤم بالعـطـا  س، ولا التيامن بالمقاسم
وإذا الأشـاتـم كـالأيا  من، والأيامن كالأشـائم
قد خط ذلك في الزبـو  ر الأولـيات الـقـدائم
وفي شعر "عبيد بن الأبرص" القائل:

نبئت أن بني جـديلة أوعـبـوا  نفراء من سلمى لنا وتكتـبـوا
ولقد جرى لهم فلم يتـعـيفـوا  تيسٌ قعيد كالهرارة أعـضـب
وأبو الفراخ على خشاش هشيمة  متنكب إبط الشمـائل ينـعـب
طُعنوا بمرّان الوشيجِ فما تـرى  خلف الأسنة غير عرق يشجب
وتبدلوا اليعبوب بعد إلـهـهـم  صنماً ففرّوا يا جديل وأعذبـوا

كلام عن العيافة، فأشار إلى تيس قعيد من الظباء، والقعيد الذي يأتي من الخلف، والأعضب المكسور القرن، وهو مما يتشاءم به العرب. وأبو الفراخ عني به الغراب، واليعبوب صنم لجديلة، وكان لهم صنم أخذته منهم بنو أسد، رهط "عبيد بن الأبرص"، فتبدلوا اليعبوب بدله.

وقد أشير إلى التشاؤم بالغراب في شعر ينسب لعلقمة الفحل: ومن تعرض للغربان يزجرها  على سلامته لا بد مشـؤوم
ونجد في شعر "أبي ذؤيب" الهذلي، وهو من الشعراء المخضرمين، اشارة إلى تشاؤم العرب بطير الشمال، إذ يقول:

زجرتُ لها طيرَ الشمال فإن تكن  هواك الذي تهوى يُصيبك اجتنابها

والعرب تتشام من "طير الشّمال"، على نحو ما تحدثت عن ذلك في الجزء السادس من هذا الكتاب.

وكان "خزز بن لوذان" السدوسي على مذهب من ينكر الطيرة ولا يعتقد بها، وينسب اليه قوله:   
لا يمنعك مـن بُـغـا  ء الخير تعقاد التمائم
ولقد غدوت وكنتُ لا  أغدو على واقٍ وحاتم
فإذا الأشاتـم كـالأيا  من والأيامن كالأشاتم
وكـذاك لا خـير ولا  شر على أحد بـدائم
قد خطّ ذلك في الزبو  ر الأوليات الـقـدائم

وفي شعر "عبيد بن الأبرص" إشارة إلى رأي العرب في الحمامة، فالعرب تقول: "أخرق من حمامة"، وعبيد يقول في ذلك:

عيُّوا بـأمـــرهـــم كـــمـــا  عيت بـبـيضـتـهـا الـحـمـــامة
جعلت لها عودين من نشمٍ وآخر من ثمامة

قال ذلك تعبيراً عن حمقها. فالنشم شجر من أشجار الجبال تتخذ منه القسيّ، والثمامة نبت قصير يضرب به المثل في الضعف، وذلك حمقها: أن تجمع بين ضعيف وقوي، فيتكسر عشها ويقع البيض فينكسر.

وقد تطرق "العباس بن مرداس" إلى ذكر"الغول"، فقال:

أصابت العامَ رعلاً غول قومهم  وسط البيوت ولون الغول ألوان

وهو يشير بذلك إلى تلون الغول. وفي شعر "زيد الخيل" أشارت إلى عادة تعليق الحلي، وخشخشة الخلاخيل على السليم، ليبرأ ويشفى، اذ يقول:

أيم يكون النعل منه ضـجـيعة  كما عُلقت فوق السليم الخلاخل

ونجد مثل ذلك في أشعار شعراء آخرين.

ومن مذاهب أهل الجاهلية المذكورة في الشعر، أنهم كانوا يستسقون السحائب لقبور من فقدوه من أعزائهم، ويستنبتون لمواقع حفرهم الزهر والرياض، قال النابغة:

فلا زال قبر بين تبنى وجاسم  عليه من الوسمي طل ووابل
فينبت حوذاناً وعوفاً منـوراً  سأتبعه من خير ما قال قائل

وكانوا يجرون هذا الدعاء مجرى الاسترحام.

وفي شعر بعض الشعراء أن الحياة لا تدوم، وان المال وان كان أساس هذه الحياة، لكنه متاع أيام وكل ذاهب. فبينما هو يجمعه ويحرص عليه، إذا به يعيث همج هامج، وما المال الا عارة فاخلف وأتلف، فكله مع الدهر ذاهب، هذا "الحارث بن حلزة" اليشكري، يقول:

بينا الفتى يسعى ويسعى له  تاح له من أمره خالـج
يترك ما رقح من عيشـه  يعيث فيه همج هـامـج
لا تكسع الشول بأغبارهـا  انك لا تدري من الناتـج

وهذا تميم بن مقبل يقول:

فاخلف واتلف إنما المال عارة  وكله مع الدهر الذي هو آكله

ونجد في شعر الشعراء الجاهليين، ذم للأغنياء الذين يملكون ولا يعطون شيئاً منه للفقير والبائس والمحتاج، وللذين يكبرون من شأن الكبير لماله، ويبتعدون عن الفقير لفقره، ويعظمون الغني على كثرة عيوبه ونواقصه، لا لشيء إلا لماله وغناه، فنرى "عروة بن الورد"، يقول:
ذريني للغنى أسعى فانـي  رأيت الناس شرهم الفقير
وأبعدهم وأهونهم علـيهـم  وان أمسى له حسب وخير
يباعده الـنـدي وتـزدريه  حليلته وينهره الصـغـير
وتلقى ذا الغنى وله جـلال  يكاد فؤاد صاحبه يطـير
قليل عيبه والـعـيب جـم  ولكن الغني رب غفـور

وللشعراء الجاهليين رأي في النساء. رأي أغلبهم إن المرأة متعة للرجل، يلهو بها، ويقضي حاجته منها، خلقت للبيت وللولادة، وهي دون الرجل. وهي تحب الشاب القوي، والغني الكثير المال. ونجد هذا الرأي عند أكثر الشعراء اتصالاً بالمرأة، وعند أكثرهم لهواً بها مثل "امرىء القيس" حيث يقول:

فيا رب يوم قد أروح مرجـلاً  حبيباً إلى البيض الأوانس أملسا
أراهن لا يحبين من قل مالـه  ولا من رأين الشيب فيه وقوسا

ونجد الأعشى يقول:

وأرى الغواني لا يواصلن أمرءاً  فقد الشباب وقد يصلن الأمردا

وفي شعر علقمة بن عبدة ترديد لرأي امرىء القيس وزيادة:

فان تسألوني بالنساء فإنني  بصير بأدواء النساء طـبـيب
إذا شاب رأس المرء أو قل ماله  فليس له في ودهن نـصـيب
يردن ثراء المال حيث علمنـه  وشرخ الشباب عندهن عجـيب


منقول من كتاب "المفصل في تاريخ العرب"
تأليف د.جواد علي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق