الثلاثاء، 22 نوفمبر 2011

شعراء العربية النصارى (4)

النصرانية العربية  في عهد الخلافة العباسية:
يقول الطبري في " تاريخ الأمم والملوك" ( 5 /235) وفي عهد الخلافة العباسية الذي بدأت من سنة (132هـ) 750م، خَفَتَ إلى حد كبير حدة الصراع بين الدولة الإسلامية والبيزنطية؛ وذلك لأن الخلافة العباسية اتخذت من بغداد والعراق مركزًا لها، وبالتالي صار قلب العالم الإسلامي بعيدًا نسبيًّا عن الدولة البيزنطية، وإن كانت الحروب لم تتوقف، وكان ميدانها في غالب الأحيان أرض آسيا الصغرى، ومن أشهر الصدامات تخريب الدولة البيزنطية لمدينة زبطرة مسقط رأس الخليفة العباسي المعتصم، وذلك في سنة (223هـ) 838م، ثم بعدها حدث الانتصار الإسلامي الكبير بفتح عَمُّورِيَّة مسقط رأس الإمبراطور البيزنطي ثيوفيل سنة (223هـ) (838م).
ويضيف  سعيد عاشور في "الحركة الصليبية" (1/50 ) ثم شهدت الدولة العباسية ابتداءً من منتصف القرن الثالث الهجري (منتصف القرن التاسع الميلادي) تدهورًا ملحوظًا، وظهرت الدُّوَيلات المتفرقة بداخلها، ومنها على سبيل المثال: الدولة الغزنوية، والدولة السامانية، والدولة الزيارية، والدولة الحمدانية، والدولة البويهية، والدولة الإخشيدية، الدولة الطولونية وغيرهم.
وفي كتاب البداية والنهاية يقول ابن كثير وهكذا ضعفت الشوكة الإسلامية، وأدى ذلك إلى أن بدأت الدولة البيزنطية تقف موقفًا حازمًا من المسلمين، حتى إنها في بداية القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) ضمت معظم مدن الجزيرة تحت السيطرة البيزنطية، ثم سقطت الجزر التي كان المسلمون قد سيطروا عليها في البحر الأبيض المتوسط مثل كريت وقبرص وذلك في سنة (350هـ) 961م؛ مما أعاد للأساطيل البيزنطية السيطرة من جديد على البحر الأبيض المتوسط، ثم حدث أمر كبير في سنة (358هـ) 969م حيث سقطت أنطاكية، وهي من أهم المدن في يد البيزنطيين، وكان لهذا دويٌّ هائل في العالمين الإسلامي والمسيحي.
ثم حدث أمر ضخم في الأمة الإسلامية حيث سقطت مصر تحت سيطرة الدولة العبيديّة الشيعية المعروفة بالفاطمية، وذلك في سنة (358هـ)969م، وبذلك انقسم العالم الإسلامي إلى قسمين كبيرين وهما: الخلافة العباسية السُّنِّية الضعيفة التي وقعت تحت سيطرة دولة بني بويه الشيعية، والدولة الفاطمية الشيعية التي تسيطر على شمال إفريقيا ومصر وأجزاء من الشام. وهكذا ازدادت الأمة الإسلامية ضعفًا وفُرقة، وهذا أعطى للدولة البيزنطية الفرصة لكي تزداد جرأة في حربها للأمة الإسلامية، فكان النصف الثاني من القرن الرابع الهجري (النصف الثاني من القرن العاشر الميلادي) ميدانًا واسعًا للبيزنطيين، اجتاحوا فيه أعالي الشام والعراق، حتى وصل الأمر إلى أن دفعت الموصل وميافارقين وديار بكر، بل وحمص ودمشق الجزية للإمبراطور البيزنطي حنا شمشقيق.  
ومن الجدير بالذكر أن هذه الحملة الأخيرة للإمبراطور البيزنطي كانت تستهدف بيت المقدس إلا أنه لم يستطع الوصول له، وكانت تفيض من كلماته ورسائله العبارات الدينية التي تؤكد الروح الصليبية التي كان مشحونًا بها في حربه.
وهذا الوجود البيزنطي في بلاد الشام وأنطاكية سيفسِّر لنا النزاع المستقبلي الذي سيدور بينهم وبين الصليبيين الغربيين حول الحق الشرعي في امتلاك هذه الأراضي والمدن.
أما القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) فقد شهد نموًّا للدولة الفاطمية، وتراخيًا من الدولة البيزنطية؛ نتيجة انشغالهم بحرب البلغار، وأيضًا لانشغالهم بضم بمملكة أرمينية النصرانية، التي كانت قد بلغت حدًّا مغريًا من الرخاء والتقدم، شجَّع البيزنطيين على بذل الجهد لضمها، وهذا أدى إلى أن بسطت الدولة الفاطمية سيطرتها على معظم الشام باستثناء حلب وأنطاكية.
وفي هذا القرن الخامس الهجري أيضًا ظهرت دولة السلاجقة الإسلامية العظيمة، وكان لها دور كبير في الصراع الإسلامي النصراني، وسوف نفرد لها صفحات كثيرة في هذه المقالات للحديث عن مواقفها في هذا الصراع. 
كان هذا هو الوضع في المشرق الإسلامي من بداية البعثة النبوية إلى أواخر القرن الخامس الهجري (خمسة قرون متتالية من الحروب المستمرة بين الدولة الإسلامية والدولة البيزنطية).

من المعلوم أنّ الخليفة المأمون (170-218/786-833) هو الذي نشط حركة استيطان الفكر اليوناني في العالم العربي . وقد تساءل محمد بن إسحاق النديم عن " السبب الذي من اجله كثُرت كتبَ الفلسفة وغيرها من العلوم القديمة في هذه البلاد "، يعني في بغداد وما يتبعها سنة 377/987 . فروى قصّة رؤيا المأمون الشهيرة ، وقال " احد الاسباب في ذلك أنّ المأمون رأى في منامه كأنّ رجلاً أبيض اللون جالس على سريره . قال المأمون : وكأني بين يديه قد مُلئتَ له هيبة ، فقلت ُ: من أنتَ؟  قال : " سَل " قلتُ : "ما الحسن ؟ "  قال : " ما حسُنَ في العقل " . قلت " ثم ماذا ؟ " قال : " ماحَسُنَ في الشرع " . قلت : " ثمّ ماذا ؟ " قال : " ما حَسُنَ عند الجمهور " قلتُ " ثمَّ ماذا ؟ " قال : " ثمّ لا ثمّ لا " .  فكان المنام من أوكد الأسباب في إخراج الكتب " .

وكان أبو زكرَّيا يوحنّا (أو يحيى) بن ماسَوَيه (777/857م) مدير بيت الحكمة أيَام المأمون ؛ ثمَّ تبعه تلميذُه أبو زيد حُنيَن بن إسحاق (809-873م) الطائر الصيت ، أيّام المتوكل على الله (232-247/847-861) وقال فيه ابن جُلجل في " طبقات الأطباء والحكماء " الموضوع صدر سنة 377هـ /987م : كان " عالماً بلسان العرب ، فصيحاً باللسان اليونانيّ جداً ، بارعاً في اللسانين بلاغةً بلغ بها التمييز عِلَل اللسانين " . وقال بن القفطي فيه : " ولم يزل أمره يقوى ، وعلمُه يتزايد ، وعجائبه تظهر في النقل والتفاسير ، حتّى صار ينبوعاً للعلوم ومعدناً للفضائل . فلمّا انتشر ذكرُه بين الأطبّاء ، اتصل خبرُه بالخليفة ، فأمر بإحضاره ولمّا حضرَ ، أُقطع إقطاعاً سنيّاً ، وقُرّر له جارٍ جيّد "  .

ويستحيل علينا ذكر أسماء النَقَلة والأطبّاء والفلاسفة العرب من النصارى ، فضلاً عن ذكر مآثرهم . إنما نكتفي بملاحظة عن " طبقات الأطبّاء والحكمّاء " ، وهو أوّل  مؤلَّف عربي يؤرَّخ للعلوم القديمة ، سبق " فهرست النديم بشهورٍ . لقد قسم ابن جُلجُل الأندلسي كتابه إلى تسع طبقات . فالسابعة سمَّاها : " من حكماء المسلمين ممنّ برع في الطبّ والفلسفة  ، ومنهم إسلام ومسيحيّون " ، فذكر منهم اثنى عشر ،  هم : بُختيشوع ، وجبريل بن بختيشوع ، ويوحنا بن ماسويه ، ويوحنا ابن البطريق ، وحنين ابن إسحق ، ويعقوب بن إسحاق الكندي ، وثابت بن قُرة ، وقسطا بن لوقا ، ومحمد بن زكريا الرازي ، وثابت بن سنان الصابئ ، وابن وصيف الصاري، ونسطاس المصري " . وجدير بالذكر أنّ سبعاً منهم مسيحيّون .

   كذلك إذا أخذنا " الفهرست "  للنديم ، الموضوع ايضاً سنة 377/987، في المقالة السابعة الخاصّة بـ " الفلسفة والعلوم القديمة " ، لَوَ وجدنا أنّ إسهام النصارى فهذه الحركة الفكرية الجبّارة لايَقل عن إسهام المسلمين فيها ، ولاسيما في الفصّل الأول ( " في اخبار الفلاسفة الطبيعيين والمنطيقيين ") والفصّل الثالث  (" ابتداء الطبّ وأخبار المتطبّبن") . وكنت قد أجريتُ بحثاً عن الأطبّاء المؤلَّفين المذكورين في المجلد الثالث من " تاريخ التراث العربي ، للمستعرب التركي الدكتور فؤاد سزكين (Sazegin) الخاصّ بالطب والصيدلة في القرون الأربعة الأولى للإسلام ، واتضّح أنّ الأغلبيّة الساحقة منهم هم من النصارى.

هذه الظاهرة تدلّ على شيئَين : على تفتُح حكماء الإسلام على الحضارات القديمة ( من يونانيّة وسريانيّة وفارسيّة وهنديّة ) وعدم تعصبُّهم إطلاقاً (اللهم إلا أيام المتوكل  ، في كفاحه ضدَّ المعتزلة وإلى حدّ ما ضد النصارى ) من ناحيةٍ : وعلى اندماج النصارى في الحارة العربيّة والدولة الأسلاميّة ، بلا تحفُظ وتأخُّر، من ناحيةٍ أخرى . وفي نظري أنّ هذين العامِليَن هما السبب الأساسي لقيام النهضة العبّاسيَة الكبرى .

ومن لطائف هذا العصر الذهبيّ ذلك التعاون الذي نراه بين العلماء والفلاسفة من جميع الأديان :مسلمين ومسيحيين ويهود وصابئة  وإليك مثليَن على هذه الظاهرة فإن أبا نصر الفارابي(ت399/950 (  "المعلمّ الثاني" ، الذي سمّاه أبو القاسم صاعد القرطبيّ " فيلسوف المسلمين بالحقيقة "  ، وقرأ أوّلاً على أبي بشر متىّ ابن يونس في بغداد ، ثمَّ " ارتحل إلى مدينة حرّان ، وفيها يوحنّا بن حَيلان الحكيم النصرانيّ ، فأخذ عنه طرفَاً من المنطق أيضاً . ثمَّ إنّه قفل ، راجعاً إلى بغداد ، وقرأ فيها علوم الفلسفة ، وتناول جميع كتب ارسطاطاليس ، وتمهّر في استخراج معانيها والوقوف على أغراضه فيها " ، على يد أبي بشر  . وعند وفاته هذا الأخير (328/940) رحل إلى حلب ، حيث أقام في بلاط سيف الدولة الحمداني . وكان له من التلاميذ يحيى بن عدي وأخوه ابراهيم بن عدي الكاتب  الذي كان " من أخص خواصّ " الفارابي " و " مُدَّن تصانيفه " ، حسب تعبير البيَهقي.

 أمّا الشيخ أبو زكريّا يحيى بن عدي (893-974) ، تلميذ أبي بشر متى وأبي نصر الفارابي ، فقد اشتهر عشرةٌ من تلاميذه ، هم أبو القاسم عيسى ابن عليّ بن عيسى (302-391/914-1001) ابن الوزير ، وأبو سليمان محمَّد ابن طاهر السِجِستاني صاحب  "صوان الحكمة "  وأبو علي عيسى بن زُرعة (331-389/942-1008) مُكمل تعليم أستاذه في اللاهوت ، أبو الخير الحسن بن سُوار ... المعروف بابن الخمَّار (331-407/942-1017) ، وأبو علي ابن السَمح (418/1027) ، وأبو بكر عبدالله بن الحسن القومسي ، وأبو الحسن على بن محمّد البديهي (ت نحو380/990)  وأبو حيان التوحيدي (ت نحو414/1023) ، وأبو علي نظيف بن يُمن مدير البيمارستان العَضُديّ ، وأحمد ابن محمّد مسكويه (ت 421/1030) . فست منهم مسلمون ، وأربع مسيحيون ( عيسى بن زُرعة ، وابن الخمَّار ، وابن السَمح ، ونظيف ).

المسيحية وعصر الدويلات العربية:
عندما فتح المسلمون الأندلس كان أهلها من النصارى وبعضهم من اليهود، لم يعاملهم المسلمون معاملة الفاتح المتجبر الذي يستبيح الديار والأعراض، ولم يكرههم على ترك دينهم، إنما ترك لهم حرية الاعتقاد. وقامت دولة الإسلام في الأندلس بقوة وتمكُّن، خاصة في عهد الدولة الأموية وعبد الرحمن الداخل ومن جاء بعده، وكان النصارى المعاهدون (الآخر) قد أصبحوا أقلية؛ بسبب إسلام معظم أهل الأندلس بعد الفتح اختيارًا لا إجبارًا..  
وكان (الآخر) يعيش آمنًا مطمئنًا على داره وعرضه وماله في ظل الحكومة الإسلامية، وكانوا يستوطنون القواعد الأندلسية الكبرى مثل قرطبة، وإشبيلية، وطليطلة، وبلنسية، وسرقسطة، ويتمتع النابهون من أبناء الأقلية النصرانية بعطف الخلفاء وثقتهم وتقديرهم، ويشغل الكثير منهم مناصب مهمة في الإدارة وفي القصر (لاحظ أن هذا مخالفٌ لما يجب أن تكون عليه عقيدة الولاء والبراء بين المسلمين، وما ورد من النهي عن اتخاذهم بطانة من دون المسلمين).
فلما سقطت دولة الخلافة الأموية بالأندلس وقامت دولة الطوائف المشئومة على الإسلام والمسلمين، طرأ تغيير ملحوظ على أحوال الأقليات حيث تمتعوا بحرية مطلقة في كل شيء أكبر من الأول بكثير، واعتنى ملوك الطوائف بالآخر بشدة، وأولاهم رعاية فائقة وبذلوا جهودًا كبيرًا في تأمين (الآخر) وحمايته وكسب مودته، وكان ملوك قرطبة وإشبيلية وسرقسطة يتسابقون في العطف على (الأقليات)، وكانت بواعث هذه السياسة الودية واضحة؛ ذلك لأن إسبانيا النصرانية في تلك المرحلة كانت بدأت تتفوق على الأندلس المسلمة، وبدأت تشن ما يُسمَّى بـ(حرب الاسترداد)..
وكان ملوك الطوائف يشعرون في هذه الأقلية بأنها مكمن للخطر والدسائس، وكان بنو عباد ملوك قرطبة أكثر الناس تسامحًا مع (الأقليات)، وبلاط بني عباد يغص بالنصارى واليهود، وعلى شاكلته كان باقي الملوك؛ فهذا (عبد الله بن بلقين) يصطنع النصارى، ويعتمد على الفرسان النصارى، ويتخذهم نصحاء وأمناء ووزراء يعاونونه في حربه ضد المسلمين!! وهذا ابن هود -نكبة الإسلام في شمال شرق الأندلس- كان أكبر ملوك الطوائف تسامحًا نحو (الأقليات)، ويعتمد على محالفة (النصارى) في كل مشاريعه ضد المسلمين، وكان هو السبب وراء بطولة الفارس الصليبي الشهير (الكمبيادور)، الذي أصبح فيما بعد أكبر نكبة على دولة الإسلام في الأندلس، وهو معدود ضمن أبطال إسبانيا القوميين حتى الآن.
هذه كانت حالة (الأقليات) في ظل حكم المسلمين بالأندلس.. رفاهية وأمان ورعاية وحماية ووزارة وبطانة، وكلها أمور يجب أن تجعل ولاءهم الأول لهذا الحكم وهذا المجتمع، ولكن كيف كان ردُّ فعل الأقليات تجاه كل هذه المزايا والنعيم؟!
كان النصارى (المعاهدون) بالرغم من هذه الرعاية والحماية، وهذا التسامح الكبير من جانب ملوك الطوائف لا يشعرون أبدًا أنهم جزء من المجتمع المسلم، ولم يشعروا قطُّ بعاطفة من الولاء نحو تلك الحكومة المسلمة التي كانت تبذل وسعها لحمايتهم واسترضائهم، بل لبثوا دائمًا على ضغنهم وخصومتهم لها وتبصرهم بها ينتهزون أية فرصة للإيقاع بها، وممالأة ملوك إسبانيا النصرانية ومعونتهم بكل وسيلة على محاربتها، وتسهيل مهمتهم في غزوها والتنكيل بها، والأمثلة على ذلك كثيرة منها:
أ- حصار قلمرية سنة 456هـ: وفيه قام النصارى المعاهدون، وقد كانوا كثرة في هذه المنطقة بدور بارز في معاونة الجيش الإسباني الصليبي، وقام رهبان دير (لورفان) القريب من قلمرية بمؤنهم المختزنة بإمداد الجيش الصليبي، ودلوهم على عورات المدينة حتى سقطت بيد الصليبيين.
ب- سقوط طليطلة سنة 478هـ: دأبت الأقليات في طليطلة على تدبير الدسائس وبث الفتن والاضطرابات داخل المدينة، والاتصال المستمر بألفونسو الصليبي زعيم صليبي إسبانيا، ومؤازرة الناقمين من المسلمين الأغبياء ضد الحكومة القائمة والعمل على تحطيم كل جبهة حقيقية للمقاومة، ولعبت الأقليات دورها على أكمل وجه حتى سقطت طليطلة بيد ألفونسو الصليبي سنة 478هـ. 
ج- غزوة الأندلس الكبرى 519هـ: هذه الغزوة تمثل قمة الاجتراء والخيانة وذروة نكران الجميل من جانب الأقليات، عندما قام النصارى المعاهدون باستدعاء (ألفونسو الأرجوني)، المعروف بالمحارب وكان أقوى ملوك الصليبيين وقتها، لغزو الأندلس واحتلالها، ووعدوه بانضمام عشرات الألوف منهم، وأرسلوا له بأسمائهم في عرايض لضمان ولائهم، ووعدوه بالمساعدة بالذخائر والمؤن والأرواح والدماء. وبالفعل قام ألفونسو المحارب بغزوته الشهيرة واخترق قواعد الأندلس يعيث فيها فسادًا، وجنود (الأقليات) ينضمون إليه أثناء سيره يدلونه على المسالك والطرق ومداخل البلاد، ولكن بفضل الله وحده فشلت تلك الغزوة الجريئة، وعاد ألفونسو خائبًا، فما كان من (الأقليات ) إلا أن شعرت بخطورة موقفها، ففرَّ عشرات الألوف من النصارى، ورحلوا في صحبة (ألفونسو)، وتركوا ديارهم وأهليهم.
وبالجملة كانت الأقليات في الأندلس نكبة على البلاد والعباد، ورغم كل ما لاقوه من عون ورعاية وحماية من الحكومات الإسلامية، وكانوا طابورًا خامسًا للأعداء، وهذا ما أقر به مؤرخو الصليبيين أنفسهم، فهذا الأستاذ (بيدال) يقول: "إن نجم المعاهدين قد بزغ ثانية عقب انحلال الدولة الأندلسية وقيام دول الطوائف الضعيفة، واستطاعوا أن يؤدوا خدمات جليلة لقضية النصرانية والاسترداد النصراني".
بل إن الحرية الممنوحة لـ(الأقليات) دفعتها لئن يتطاولوا على المسلمين وأصلهم، كما نرى في الرسالة الشهيرة التي كتبها (ابن جرسيا) في تفضيل العجم على العرب سنة 450هـ، وهي رسالة تفيض تحاملاً ضد الجنس العربي، وتنوه بوضاعة منبته وخسيس صفاته، وحقارة عيشه وميوله وانغماسه في شهوات الجنس، وتشييد بالعكس بصفات العجم (كل من ليس عربي)، وترفعهم عن الشهوات الدنية وتبحرهم في العلوم وغير ذلك؛ مما يوضح نتاج سياسة التسامح واللين مع (الأقليات).  
والجدير بالذكر أن خيانات وجرائم (الأقليات) المتكررة دفعت فقهاء المسلمين لئن يحملوا الحكام على عقابهم، كما حدث من كبير فقهاء الأندلس (ابن رشد الجد) عندما أصدر فتوى بوجوب تغريب النصارى المعاهدين من الأندلس إلى المغرب، وذلك سنة 521هـ، في عهد أمير المسلمين علي بن يوسف.
دائمًا يذكر المؤرخون أن سبب خروج المغول على بلاد المسلمين كان بسبب ما وقع بين جنكيز خان ملك التتار وعلاء الدين خوارزم ملك المسلمين وقتها، ولكن السبب الحقيقي الذي ذكره المحققون من المؤرخين هو الكيد الصليبي الذي خاف من إسلام قبائل المغول باحتكاكهم مع المسلمين، كما حدث لأبناء عمومتهم من الترك مثل السلاجقة والتركمان، والذي لو وقع لأصبح المسلمون قوة لا يقف أمامها أحد؛ فعمل الصليبيون على إرسال الرسل للتتار يحسنون فيها لهم غزو بلاد الإسلام، وغلاتها ومنتجاتها وخيراتها وحمالها، وكان سلاح النساء النصرانيات يعمل بقوة في التتار عندما دخلوا على شكل خليلات وعاهرات. المهم خرج التتار كالجراد المنتشر الذي يأكل الأخضر واليابس، ولا يذر شيئًا حتى تمكنوا من إسقاط الخلافة العباسية سنة 656هـ. 
وواصلوا زحفهم حتى وصلوا إلى دمشق في شهر صفر سنة 658هـ، وجعلوا على المدينة واليًا من قبلهم رجلاً اسمه (إبل سيان)، وكان معظمًا لدين النصارى، وهذا يوضح أثر الصليبيين على المغول منذ البداية، فاجتمع هذا الشقي بأساقفة وقساوسة النصارى الذين كانوا يمثلون (الأقلية) في هذا الوقت، وعظمهم جدًّا، وزار كنائسهم، وصارت لهم دولة وصولة، وذهبت طائفة من النصارى إلى هولاكو، وأخذوا معهم هدايا وتحفًا، وقدموا من عنده ومعهم أمان (فرمان) من جهته، ودخلوا من باب (توها) ومعهم صليب منصوب يحملونه على رءوس الناس، وينادون بشعارهم ويقولون: (ظهر الدين الصحيح دين المسيح) ويذمون دين الإسلام وأهله، ومعهم أواني الخمر لا يمرون على باب مسجد إلا رشوا عنده خمرًا، ويرشون منها على وجوه الناس وثيابهم، ويأمرون كل من يجتازون به في الأزقة والأسواق أن يقوم لصليبهم..  
ووقف خطيبهم إلى دكة دكان في السوق فمدح دين النصارى، وذمَّ دين الإسلام وأهله، ثم دخلوا كنيسة مريم، وأخذوا في ضرب النواقيس ابتهاجًا بما فعلوه، وكان في نيتهم إن طالت مدة التتار أن يخربوا المساجد والجوامع والمدارس وغيرها من آثار الإسلام، وعندما اعترض المسلمون ودخلوا على الشقي (إبل سيان) ليشكوا إليه، نهرهم وشتمهم وطردهم، وكان هذا فصلاً آخر من فصول موقف (الأقليات) عندما يجدون فرصة للتنفيث عن مكنونات صدرهم، ودفائن حقدهم.
وفي مصر كان للأقليات جولة وجولات تطفح بمدى الشعور بالانعزال والانقطاع عن المجتمعات المسلمة التي ظلوا في حمايتها قرونًا عديدة، ولكن أبرز هذه الخيانات وأخس هذه الأدوار ما كان منهم عندما احتل الفرنسيون مصر سنة 1213هـ، بدافع صليبي مغلف بدوافع اقتصادية وتجارية وسياسية، ووجدوا أمامهم معارضة شعبية إسلامية قوية وصامدة من مسلمي مصر، فقرروا الاستفادة من وجود (الأقليات) بالديار المصرية، ولعبوا على وتر العقيدة الصليبية عندهم، ونجح الفرنسيون في استثارة (الأقليات) وجندوا العناصر النصرانية المصرية التي طالما عاشت وترعرعت آمنة مطمئنة بأرض مصر، وكان رمز الخيانة وقتها ممثلاً في شخصية المعلم (يعقوب حنا)، الذي يعدُّ أبرز من خانوا بلادهم في المجتمع الحديث، حيث قام هذا الصليبي الخائن بتكوين فرق عسكرية من النصارى المصريين، وقام الضباط الفرنسيون بتدريبهم على نظم أوربا العسكرية وتزويدهم بالأسلحة الحديثة لمساعدتهم في قمع الثورات الشعبية، وقد منحه الفرنسيون رتبة (جنرال)، ولقب القائد العام للفيالق القبطية بالجيش الفرنسي.
وقد استطاعت القوات الفرنسية بمعاونة ميليشيات يعقوب القبطي أن تقمع ثورة القاهرة الأولى سنة 1213هـ، وثورة القاهرة الثانية سنة 1214هـ، وقد أباح الكلب (كليبر) للمعلم يعقوب القبطي أن يفعل بأهل القاهرة ما يشاء بعد أن قمع ثورة القاهرة الثانية، فقام بإحراق الدور ونهب الأموال وتهديم المساجد وانتهك الأعراض، ووقع منه من المنكرات والأحقاد ما يعجز القلم عن وصفه، وكانت يعقوب بن حنا القبطي وفرقته القبطية العسكرية بداية لما عرف في التاريخ المصري باسم (الفتنة الطائفية). والعجيب أنه صار بعد ذلك قديسًا يقام له بأرض مصر مولدٌ واحتفال بذكراه في الجهاد ضد المسلمين، ولكن العجيب من ذلك موقف المؤرخين النصارى المعاصرين حيث يثنون على ما قام به هذا الخائن الصليبي. 
فهذا هو الكاتب الصليبي الشهير د. لويس عوض المعروف بكراهيته الشديدة للإسلام يقول: "إن الدور الذي قام به المعلم يعقوب حنا مع الفرنسيين ضد العثمانيين، يعتبر تعاونًا يستحق بموجبه أن يقام له تمثال من ذهب في أكبر ميادين القاهرة، ويكتب عليه أنه أول من نادى باستقلال مصر في العصر الحديث".
وما زال الجدل محتدمًا حتى الآن في مصر حول دور يعقوب حنا في الحملة الفرنسية، على الرغم من أن المؤرخين المعاصرين للحملة مثل الجبرتي قد وصفه بما يليق به من خيانة ونذالة وحقد على الإسلام والمسلمين.
ونحن هنا قد وصلنا للدور الأروع والأفظع والجريمة الأشنع التي قامت بها (الأقليات) في حق مجتمعاتها المسلمة ودولتها التي عاشت فيها ونمت وازدهرت، وهو ما قام به اليهود والنصارى من رعايا الدولة العثمانية، حيث كانت أوربا الصليبية في حربها ضد الدولة العثمانية حريصة على تمزيق الدولة بإثارة الفتن وتفجير الثورات الدينية الداخلية، وكانت أدواتهم في ذلك وسلاحهم الشرير في تنفيذ مخططهم الآثم هو اليهود والنصارى، رغم ما كانوا يلقونه من عناية ورعاية وعطف من سلاطين الدولة العثمانية، حتى إن كثيرًا من هؤلاء السلاطين قد تزوجوا من نساء (الأقليات). 
ولربما يضطلع اليهود بالدور الأكبر في هدم الخلافة العثمانية، ولكن هذا لا يقلل دور النصارى في إثارة الفتن والقلاقل، وكان القساوسة ورجال الدين على صلات وثيقة بزعماء الدول الأوربية، وخصوصًا روسيا، وهذا يتضح من نص الوثيقة التاريخية المهمة التي أرسلها بها البطريرك (جريجوريوس) إلى قيصر روسيا يبين له فيها كيفية هدم الدولة العثمانية من الداخل، التي يركز فيها على كيفية تحطيم الروح الإيمانية والمعنوية للمسلمين، وتمزيق الروابط التي تجمعهم نحو النصر (عقيدة الولاء والبراء). 
كانت الدولة العثمانية تنظر إلى رعاياها النصارى على أنهم جزء من نسيج هذه الدولة يتولون المناصب ويشتركون في المعارك وينعمون بالأمن والأمان، والرفاهية التامة، وازداد نفوذهم مع تدهور الدولة العثمانية، وانتشار الأفكار التغريبية، خاصة من بداية عهد السلطان محمود الثاني المتوفى سنة 1839م/1255هـ، والذي فتح المجال على مصراعيه للنصارى، ومسخ عقيدة الولاء والبراء تمامًا، فها هو يقول في إحدى خطبه: "إني لا أريد ابتداءً من الآن أن يميز المسلمون إلا في المسجد، والمسيحيون إلا في الكنيسة، واليهود في المعبد، إني أريد ما دام يتوجه الجميع نحوي بالتحية أن يتمتع الجميع بالمساواة في الحقوق".
لذلك نعمت النصرانية في عهده بحرية تامة جدًّا، ثم جاء من بعد السلطان عبد المجيد الأول المتوفى عام 1860م/ 1277هـ، وكان شابًّا في السادسة عشرة، فعبث برأسه المفتونون بالغرب، وعلى رأسهم "مصطفى باشا رشيد" الذي أصدر (خط شريف جلخانة) الذي ينص على المساواة في الحقوق والواجبات بين المسلم وغير المسلم، ثم أتبعه بالخط الهمايوني الأكثر انحلالاً، والذي ينص على 8 نقاط ترشح وتؤكد على المساواة بين المسلم وغير المسلم في كافة الحقوق والواجبات، وتكتب شهادة بوفاة عقيدة الولاء والبراء عند هؤلاء القوم. ورغم كل هذه الحريات التي تصل لمرحلة التمييع الشديد والطمس الكامل لعقيدة الولاء والبراء، كيف جاء رد فعل الآخر على هذه التنازلات؟ وهل شعر أنه جزء من هذا الوطن الذي لا يفرق بينه وبين غيره؟  
الجواب: لا؛ فالنصارى دأبوا على التحريض والثورات، ويتضح ذلك جليًّا في ثورة اليونان الكبيرة سنة 1821م/1237هـ.
وفي عهد مَن؟ في عهد محمود الثاني الذي فتح الباب للنصارى على مصراعيه، وفي هذه الثورة كان النصارى يهاجرون من بلادهم إلى اليونان للاشتراك في ثورتها ضد الدولة العثمانية، وتسببت تلك الثورة في إضعاف الدولة العثمانية وتنازلها لروسيا عن الكثير من الموانئ والبلاد، وانفصال الشام ومصر تحت حكم  محمد علي باشا. 
ويتضح أيضًا هذا الدور من ثورات النصارى الدائمة بأرمينيا وجورجيا الذين كانوا يرون دائمًا في الدولة العثمانية عدوًّا أبديًّا يجب التخلص منه.
ويتضح أيضًا هذا الدور في المحافل الماسونية التي دخلت بلاد الإسلام مع الحملة الفرنسية على مصر 1213هـ، حيث كانت معظم هذه المحافل مكوَّنة من النصارى، ومنها خرجت الأفكار العلمانية والقومية، فنجد أن فكرة القومية العربية التي وضعت أصلاً لضرب الولاء والبراء بين المسلمين نشأت ببيروت على يد رجال أمثال بطرس البستاني، وإبراهيم اليازجي، وغيرهم من رجال (النصارى) المشهورين.
إن كان للنصارى دور كبير في سقوط الدولة العثمانية، فإن اليهود هم أصحاب الدور الأكبر والأخبث في تلك المهمة القذرة؛ ذلك لأن النصارى كانوا يعتمدون سياسة الثورة والقوة التي تهدف لتحطيم الدولة عسكريًّا، أما اليهود فقد كانوا يعملون في الخفاء وينخرون في جسد الأمة كالسوس، يقفون بالمرصاد أمام محاولات الإحياء والصحوة، ويروجون لكل المنظمات والأفكار الهدَّامة التي من شأنها على المدى البعيد أن تقوض هذا الملك الكبير، هذا مع كبير الجميل الذي قام به العثمانيون تجاه اليهود؛ ذلك لأنه في عهد سليمان القانوني المتوفى سنة 974هـ/1566م، وقعت محنة محاكم التفتيش بالأندلس للمسلمين واليهود..
وتشرد من اليهود مئات الألوف، وهاموا على وجوههم، ورفضت كل البلاد استقبالهم لسابق سوء صنيعهم وسمعتهم الشهيرة في الفساد والشر، وكان سليمان متوجًا من امرأة يهودية كالأفعى اسمها (روكسلان) ظلت تستعطف سليمان ليتقبل اليهود ببلاده، حتى وافق وأذن لهم بالاستيطان بالبلاد الثمانية فاستوطنوا الأناضول خاصة (إزمير، سلانيك، أدرنة) وتمتعوا بقدر كبير من الاستقلال الذاتي، وتولوا المناصب واقتنوا الثروات وعاشوا في حرية ورفاهية تامة، فماذا كان رد فعلهم؟ وكيف تعاملوا مع دولتهم ومجتمعهم؟ 
أخذ اليهود في إنشاء جماعة خاصة بهم غرضها إفساد عقائد المسمين والدعوة لتجميع اليهود من شتى أنحاء العالم لاتخاذ القدس مقرًّا لهم، وهؤلاء معروفون بـ (يهود الدونمة)، وداعيتهم (شتباي زيفي) الذي ادعى النبوة وذاع أمره بأوربا والشام ومصر، وجاءته وفود اليهود لتبايعه، ولما أخذته الدولة العثمانية لتعاقبه، ادعى الإسلام وأظهر أنه مسلم وسمى نفسه (محمد البواب)، وطلب من الدولة أن تأذن له في الدعوة للإسلام بين اليهود، وظل (شتباي زيفي) على يهوديته في الباطن يمارس العمل للصهيونية في الخفاء، ويظهر الإخلاص للإسلام في العلن. وتعتبر حركته (يهود الدونمة) حركة سياسية موجهة ضد الدولة العثمانية، أكبر من كونها حركة دينية، وكان لها إسهامات عديدة في هدم الخلافة عن طريق:
أ- هدم القيم الإسلامية في المجمع العثماني المسلم، والعمل على نشر الإلحاد والأفكار الغربية، والدعوة للعري والاختلاط بين الرجال والنساء، خاصة في المدارس والجامعات. 
ب- قام يهود الدونمة بدور فعّال في نصرة القوى المعادية للسلطان عبد الحميد، والتي تحركت من (سلانيك) لعزله، وهم الذين سمموا أفكار الضباط الشباب وتغلغلوا داخل صفوف الجيش. 
ج- قام اليهود بالتأثير في جمعية الاتحاد والترقي، تحكموا فيهم وحركوهم كالدمى؛ حتى ينفذوا مخططهم الشرير في عزل عبد الحميد وتطبيق الدستور العلماني. 
د- أسسوا المحافل الماسونية داخل الدولة العثمانية، واستخدموا شعارات خادعة مثل الحرية ومكافحة الاستبداد ونشر الديمقراطية؛ لاجتذاب البسطاء وترويح الأفكار الهدامة.
ويعتبر (شتباي زيفي) والذي هلك سنة 1678م/1067هـ، أول من نادى باتخاذ فلسطين وطن قومي لليهود، ويعتبر المؤسس الحقيقي للصهيونية العالمية، وذلك قبل (تيودور هرتزل) بثلاثة قرون، ويكفي أن نعرف أن (مصطفى كمال) ينتسب إلى هذه الطائفة اليهودية الخبيثة؛ لندرك مدى دورها في تحطيم الخلافة العثمانية. 
ويعتبر اليهودي (موئيز كوهين) مؤسس الفكر القومي الطوراني، وكتابه في القومية الطورانية هو الكتاب المقدس للسياسة الطورانية التي قوضت الخلافة العثمانية، وأحبطت فكرة الجامعة الإسلامية، واليهود ويؤكدون على دورهم في تحطيم الخلافة العثمانية بإرسال أحد كبار اليهود، وهو (إيمانويل قراصو) وهو من قادة الاتحاد والترقي ليسلم السلطان عبد الحميد قرار عزله كنوع من التشفي والانتقام، وإظهار عاقبة رفض عبد الحميد لطلبهم باستيطان فلسطين.
هذه كانت جولة سريعة في أحداث التاريخ السابقة التي ربما تكون غائبة عن ذهن المسلمين الآن كعادتهم مع تاريخهم التليد، وضحنا فيها موقف (الآخر) من قضية "الولاء والبراء"، أما واقعنا الحاضر وتاريخنا القريب فهو مليء أيضًا بالمواقف التي تبرهن لنا على حقيقة موقف الآخر في مجتمعه المسلم، نذكر منها رءوس أقلام للتذكرة والتنبيه:
- ما جرى من الآخر في بلاد البوسنة والهرسك والمجازر البشعة التي ارتكبت في حق المسلمين، لا لشيء إلا لأنهم أرادوا أن يكون لهم دولة خاصة تحمل شعار الإسلام.
- ما جرى من الآخر في بلاد كوسوفا ومقدونيا.
- ما جرى من الآخر في الشيشان.
- ما جرى من الآخر في جنوب السودان وجنوب نيجيريا وساحل العاج وإثيوبيا وإريتريا.
- ما جرى من الآخر في لبنان، وخيانة الآخر الكبيرة بتكوين جيش صليبي بقيادة أنطوان لحد.
وما زالت دماء المسلمين تُراق كل يوم وليلة في شتى بقاع الأرض على يد (الأقليات)، والتي نعمت مئات السنين تحت حكم الإسلام. 
مما سبق عرضه من هذه الدراسة التاريخية الموجزة، والعرض السريع لأحداث التاريخ القديم والمعاصر يتضح لنا عدة أمور مهمة في قضية الأقليات، وموقفهم تجاه المجتمعات التي يحيون فيها، ومنها: 
أولاً: أن الأقليات قد نعمت في ظل حكم الدولة الإسلامية بكل أنواع الأمان والرفاهية والمساواة التي لم يكن يخطر لهم بمثلها على بال لو حكم بعضهم بعضًا (مثلما حدث من الأسبان عندما حكموا الأندلس طردوا كل اليهود منها)، ولم يعلم من أحداث التاريخ شيئًا يدان به المسلمون في معاملتهم للأقليات، بل إن حسن المعاملة كانت سببًا لإسلام الكثير منهم، كما حدث مع نصارى حمص أيام ولاية أبي عبيدة بن الجراح t سنة 15هـ.
ثانيًا: أن الأقليات رغم كل هذه المعاملة الحسنة والتسامح الكبير الذي يصل إلى حد التساهل، لم يشعروا أنهم جزء من المجتمع المسلم، بل دائمًا وأبدًا يشعرون أنهم نسيج بمفرده، مثلما حدث مع نصارى مدينة طرابلس الشامية الذين رحلوا بعيالهم ونسائهم مع الصليبيين عندما خرجوا من هذه المدينة مع نهاية الحروب الصليبية سنة 680هـ، ونجد أيضًا أن الإنجليز عندما احتلوا العراق سنة 1917م/1335هـ، دخلوا بغداد في استقبال رائع وكبير من اليهود والنصارى الذين أعلنوا أنهم في خدمة الإنجليز وتحت تصرفهم، وعندما طالب المسلمون بالعراق تكوين دولة مستقلة لهم من شمال الموصل إلى الخليج العربي سنة 1338هـ، رفض اليهود والنصارى ذلك، وطلبوا أن يكونوا رعايا بريطانيين. 
ثالثًا: أن (الأقليات) لم تكتف بانعزالهم شعوريًّا ووجدانيًّا عن المجتمعات المسلمة التي يحيون فيها، بل تمادوا في ذلك، وأصبح بمنزلة (الطابور الخامس) لأعداء الأمة المسلمة، يحيكون الدسائس وينقلون الأخبار ويتجسسون لصالح الأعداء، فهم مع كل عدو وحاقد على الإسلام، حتى ولو لم يطلب الأعداء منه العمل؛ فالأقليات دائمًا تحت أمر وخدمة وتصرف أعداء الإسلام، ولم نجد منهم موقفًا واحدًا في نصرة الدين أو الدفاع عن مجتمعه المسلم الذي يحيى فيه، إلا ما كان اضطراريًّا أو دفاعًا عن النفس.
رابعًا: أن (الأقليات) لم تنشط أو ترفع رأسًا أو تحيك المؤامرات أو تتعاون مع أعداء الإسلام إلا في الفترات التي تضعف فيها عقيدة الولاء والبراء عند المسلمين أنفسهم، ويتساهلون مع (الأقليات) ويرفعونهم إلى درجة المساواة مع المسلمين، كما حدث عند إطلاق الخط الهمايوني في عهد السلطان (محمود الثاني)، حيث شهد هذا العصر إطلاق المحافل الماسونية والمدارس التبشيرية والإرساليات النصرانية، وظهور الأفكار التحررية والعلمانية، ومن قبل نشطت الأقليات في الأندلس في عهد ملوك الطوائف المشهورين؛ لتمييعهم الشديد في أمر الإسلام، وضعف عقيدتهم الإسلامية؛ مما أتاح الفرصة أمام (الأقليات) لئن تتآمر مع إسبانيا الصليبية، وتضيع حواضر الإسلام التليدة؛ قرطبة، طليطلة، إشبيلية.
وعلى المقابل، ففي الفترات التي كانت الدولة المسلمة تطبق شرع الله بصورة تامة وكاملة، خاصة عقيدة الولاء والبراء، وكانت شروط أهل الذمة تطبق على الأقليات، كانت هذه الفترات هي فترات القوة والعظمة، والفترات التي لم يستطع فيها أهل الذمة أن يتحركوا أو يُخرِجوا مكنون صدورهم، أو حتى يفكروا في التآمر على المجتمع؛ لأنهم يعلمون علم اليقين أن يد الشرع ستطولهم، وعندها يكون العقاب الأليم والحد الفاصل. 
خامسًا: أن المتاعب والفتن التي تسببت فيها (الأقليات) لمجتمعاتهم المسلمة لم يكن لها أن تحدث لو أن المجتمع المسلم كان ملتزمًا بشرعه، متمسكًا بعقيدته النقية، وهذا يقودنا إلى حقيقة مهمة قررها القرآن الكريم منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا من الزمان، عندما قال رب العزة: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120].
فمهما فعل المسلمون، ومهما قدموا من تنازلات للأقليات، ومهما تساهلوا وتهاونوا معهم إلى حد التمييع فلن يرضوا أبدًا عن كل هذا، ولن يشعروا بأنهم جزء من هذا المجتمع، ولن ترضيهم قصائد المدح وشعارات الوحدة الوطنية الجوفاء، وإفطارات الكنائس والإجازات الرسمية والكنائس الجديدة... إلى غير ذلك، فكل ذلك لن يُرضيهم أبدًا؛ لأنهم أولاً وأخيرًا أعداء لله ولرسوله، وصدق الشاعر عندما قال:
كل العداوات تُرجى مودتها *** إلا عداوة من عاداك في الدين

في الوقت الذي كانت الحروب مستعرة في شرق العالم الإسلامي كانت الحروب كذلك مستمرة في غرب العالم الإسلامي بين مسلمي الأندلس والدول النصرانية الغربية (شمال إسبانيا وفرنسا في الأساس)، وكانت الأيام دُولاً بين الفريقين؛ فيوم للمسلمين ويوم للصليبيين، إلا أن القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) كان في معظمه للصليبيين، وهو العصر الذي عُرِف في التاريخ بعهد ملوك الطوائف، حيث تفرقت جدًّا كلمة المسلمين، مما أدى إلى اجتياح صليبي لقطاع كبير من شمال الأندلس، وخاصةً في زمن ألفونسو السادس ملك ليون وقشتالة، الذي أسقط في سنة (478هـ) 1085م مدينة طليطلة العتيدة؛ مما أحدث دويًّا هائلاً في العالمين الإسلامي والمسيحي.

وكتقييم عام للموقف في نهاية القرن الخامس الهجري (نهاية القرن الحادي عشر الميلادي)، فإن العالم الإسلامي كان منقسمًا بين الخلافة العباسية تحت سيطرة السلجوقيين وبين الدولة الفاطمية ومقرها القاهرة، وكانت نهايات القرن الخامس الهجري تمثِّل ضعفًا وفُرقة واضحين في الشرق الإسلامي، بينما كانت نهاية القرن الخامس الهجري في الأندلس تحمل قوة بارزة للمسلمين بظهور دولة المرابطين الفتيَّة تحت قيادة القائد الفذِّ يوسف بن تاشفين - رحمه الله -.

ومن ثَمَّ فإنه عند ظهور الحركة الصليبية في غرب أوربا في هذا التوقيت -على نحو ما سنشرح في بإذن الله- فكَّروا في غزو الشرق الإسلامي الضعيف، وهذا للمرة الأولى في تاريخ غرب أوربا، بدلاً من الانطلاق إلى الأندلس القوية تحت زعامة المرابطين. وهكذا بدأت الحروب الصليبية من نهايات القرن الخامس الهجري وحتى نهايات القرن السابع الهجري (أكثر من مائتي سنة؛ من نهاية القرن الحادي عشر إلى نهاية القرن الثالث عشر الميلادي).

استمرت هذه الحروب الشرسة فترة الخلافة العباسية ودولة السلاجقة، وكذلك الدولة الزنكية فالأيوبية فدولة المماليك، وانتهت بطرد الصليبيين الغربيين وعودة الأراضي الإسلامية للمسلمين، كما ذكرنا في أواخر القرن السابع الهجري.

وعلى الناحية الأخرى فإنه على الرغم من هزيمة الصليبيين من دولة الموحدين التي ورثت دولة المرابطين في موقعة الأرك سنة (591هـ) 1194م فإن أوائل القرن السابع الهجري شهد في الأندلس تقدمًا ملحوظًا للصليبيين، حيث انتصروا على دولة الموحدين في موقعة العقاب سنة (609هـ) 1212م، ثم توالى سقوط المعاقل الإسلامية الكبرى، مثل قرطبة وإشبيلية، ولم يتبقَّ للمسلمين في نهاية القرن السابع الهجري إلا مملكة غرناطة الصغيرة في جنوب الأندلس، التي قُدِّر لها أن تعيش حوالي قرنين ونصف القرن من الزمان.

وكانت نهايات القرن السابع الهجري قد شهدت أيضًا ظهورًا لدولة العثمانيين، الذين حملوا راية الجهاد ضد الدولة البيزنطيَّة، وذلك بعد رحيل الصليبيين الغربيين.

وفي القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي) كانت الفتوحات العثمانية الإسلامية في منطقة آسيا الصغرى مستمرة، بينما استقرت أوضاع الأندلس أو غرناطة نسبيًّا.
أما القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي) فقد شهد استمرارًا لحروب العثمانيين ضد البيزنطيين، وتُوِّجت هذه الحروب بانتصار مهيب، حيث فتحت القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية في عام 857هـ 1453م؛ مما فتح الطريق للمسلمين لينساحوا في شرق أوربا.

ومع هذا السرور العظيم الذي نَعِمَ به العالم الإسلامي على الجبهة الشرقية للنزاع بين المسلمين والنصارى، إلا أن القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي) شهد حادثًا مؤسفًا جدًّا، وهو سقوط غرناطة آخر معاقل المسلمين في الأندلس، وبالتالي خروج المسلمين بالكُلِّيَّة من الأندلس بعد أكثر من ثمانية قرون، وذلك في سنة (897هـ) 1491م.

ورغم محاولات الدولة العثمانية لنجدة المسلمين في الأندلس إلا أن محاولتهم باءت بالفشل؛ لانشغال العثمانيين بالحروب مع شرق أوربا من جهة، والصفويين الشيعة في إيران من جهة أخرى.

أما القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي) فكان عثمانيًّا خالصًا؛ إذ وصلت الفتوحات العثمانية الإسلامية إلى منتصف أوربا تقريبًا، واستطاع العثمانيون في عهد سليم الأول وسليمان القانوني أن يضما معظم أملاك الدولة البيزنطية إلى المسلمين، وبذلك دخلت اليونان وألبانيا ويوغوسلافيا والمجر وبلغاريا في نطاق الدولة الإسلامية، ووصلت الجيوش الإسلامية إلى فيينا عاصمة النمسا، وقَبِل ملك النمسا آنذاك أن يدفع الجزية للمسلمين.

وفي هذا القرن حاول الأسبان والبرتغال احتلال دول شمال إفريقيا إلا أن المحاولات لم تكن ناجحة في الأغلب، اللهم إلا نجاح الأسبان في انتزاع سبتة ومليلة من المغرب سنة (987هـ) 1580م، وبقائهما تحت الاحتلال حتى الآن. وفي القرن الحادي عشر الهجري (السابع عشر الميلادي) بدأ التقلص العثماني في أوربا، واستطاعت بعض الدول الأوربية الانتصار على الدولة العثمانية في عدة لقاءات.

وعلى الساحة الغربية كان التفوق الإسباني والبرتغالي ملحوظًا، وإن كان التفوق الهولندي كان أشدَّ وأكثر.

أما القرون الثلاثة التالية وهي القرن الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر الهجري (الثامن عشر والتاسع عشر والعشرون الميلادي)، فقد كان التفوق الصليبي واضحًا، وبدأت الدولة العثمانية في التقلص التدريجي تحت ضربات إنجلترا وفرنسا من ناحية، وروسيا من ناحية أخرى، وسقطت معظم دول العالم الإسلامي تحت الاحتلال الإنجليزي والفرنسي والروسي والصيني والهندي، وكذلك اليهودي الصهيوني في فلسطين بمساعدة الإنجليز.

ثم شهد منتصف القرن الرابع عشر الهجري (منتصف القرن العشرين) موجة تحرر واسعة النطاق في العالم الإسلامي، بدأت في لبنان سنة (1360هـ)1941م، ثم سوريا (1362هـ) 1943م، ثم ليبيا (1370هـ) 1951م، ثم مصر (1371هـ) 1952م. وهكذا تتابعت الدول الإسلامية في التحرر حتى لم يبق إلا فلسطين، وسبتة ومليلة في المغرب، هذا فضلاً عن الدول المحتلة من دول غير نصرانية، كالدول المحتلة من الاتحاد السوفيتي أو الصين أو الهند.

الاحتلال الغربي المعاصر ثم كانت الهجمة الصليبية الأخيرة على العالم الإسلامي؛ حيث احتلت الصرب البوسنة سنة (1412هـ) 1992م، ثم تحررت سنة (1415هـ)1995م، ثم احتلت أمريكا أفغانستان سنة (1421هـ) 2001م، ثم العراق سنة (1422هـ) 2003م.

وهكذا رأينا أنه منذ أيام البعثة النبوية الأولى وحتى أيامنا هذه لم تتوقف أبدًا حلقات الصراع الإسلامي- النصراني، ولم يكن هناك عَقْد -فضلاً عن قرن- خلا من معارك ونزال، وهذا أمر ليس مستغربًا؛ حيث قال - تعالى -في كتابه الكريم: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) [البقرة: 120]. وقال أيضًا: (وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) [البقرة: 217].

وهكذا باستعراض هذه الحلقات نعرف أن قصة الحروب الصليبية التي نحن بصددها ليست قصة مستغربة، بل إن المستغرب فيه حقيقة ألا توجد فترة فيها تصادم وتصارع. ومع عدم رغبتنا في الصدام أو الصراع إلا أنه سنةٌ من سنن الكون، ذكرها ربُّنا I في كتابه حين قال: (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِين) [البقرة: 251].

د. السيد عبد الله
المنوفية - مصر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق